الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال وأجل القربات ، فهو ذروة سنام الدين ، وناشر لوائه ، وحامي حماه ، بل لا قيام للدين في الأرض إلا به ، فإن هذا الدين لن يقوم إلا كما قام أول مرة تحت ظلال السيوف ، فبه نال المسلمون العز والتمكين في الأرض .
وبسبب تعطيله حل بهم الذل والهوان والصغار ، وتداعت عليهم أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، وأصبحوا مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل ، حتى نزع الله المهابة من قلوب أعدائهم لهم وقذف في قلوبهم الوهن ، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا .
قال عز وجل : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } (التوبة 111) ، وقال سبحانه:{ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} (الصف 10-11)
وقد وردت في فضل الجهاد الأحاديث المتكاثرة ، من ذلك ما جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله والجهاد في سبيله ) متفق عليه ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه ، وقال : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ،ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض .... الحديث ) رواه البخاري .
والجهاد باب واسع يدخل تحته أعمال كثيرة ، وأنواع متعددة ، فهو يكون بالنفس ، ويكون بالمال ، ويكون باللسان ، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وتعليماً للخير ، ونشراً للدعوة ، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأنواع جميعاً فقال : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وأموالكم ) رواه أبو داود .
ومن أنواع الجهاد جهاد النفس بتزكيتها وتربيتها على الدينونة لله ، ودفع الشهوات والشبهات ، ولأهمية هذا النوع قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ( ألا أخبركم بالمؤمن : من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده ، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب ) رواه الإمام أحمد ، ومن أنواعه أيضاً جهاد الشيطان بمخالفته وعدم الانصياع له ، وجهاد الكفار والمنافقين وأرباب الظلم وأهل البدع والمنكرات ، إلى غير ذلك من صور الجهاد وأنواعه .
وشهر رمضان المبارك هو شهر الجهاد بأنواعه ففيه حبس للنفس عن محبوباتها ، وبذل للمال في سبيل الله ، ومجاهدة أعداء الله ، ولذلك وقعت أعظم معركتين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم ، الأولى معركة بدر الكبرى التي كانت فرقاناً فرق الله به بين عهد الذل والاستضعاف وعهد العزة والتمكين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
والثانية فتح مكة ، وبها زالت غربة الإسلام الأولى ، وسقطت رايات الوثنية بمكة ، وأصبح الإسلام عزيزاً في أرجاء الجزيرة .
وكذلك كان هذا الشهر عند سلف الأمة ، فكثير من الأحداث والفتوحات التي كان لها أعظم الأثر في حياة المسلمين وقعت في هذا الشهر الكريم .
ومما يؤسف له أن هذه المفاهيم قد انعكست في نفوس كثير من المسلمين اليوم ، فبعد أن كان رمضان شهر الجهاد والعمل والتضحية ، أصبح شهراً للكسل والبطالة وفضول النوم ، وهو انتكاس خطير في المفاهيم ، والواجب أن نصحح نظرتنا تجاه هذا الشهر الكريم ، وأن نعيشه كما عاشه نبينا صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من بعده ، وأن نسعى لرفع الذل عن أمتنا وإحياء هذه الفريضة الغائبة في حياتها ، فواقع الأمة المسلمة اليوم وقد استبيح عرضها ، وسلبت مقدساتها ، وذبح أطفالها ، وهدمت ثوابت دينها ، خير شاهد على أثر ترك الجهاد ، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .