القرآن الكريم كتاب الأمة الخالد الذي أخرجها -بإذن الله - من الظلمات إلى النور ، وأنشأها نشأة أخرى ، وبدل خوفها أمناً ، وذلها عزاً .
ومكن لها في الأرض ، فيه نبأ من قبلنا ، وخبر ما بعدنا ، وحكم ما بيننا ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : "جمع الله في هذا الكتاب علم الأولين والآخرين ، وعلم ما كان وعلم ما يكون ، والعلم بالخالق جل وعلا وأمره وخلقه " ، وكان عثمان رضي الله عنه يقول : "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم " .
وشهر رمضان هو شهر القرآن ، ففي شهر الصيام تنزل القرآن ، قال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة 185) ، وفي شهر رمضان كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيدارسه القرآن كل ليلة كما في الصحيحين ، وكان يعارضه القرآن في كل عام مرة ، وفي العام الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل القرآن مرتين .
من أجل ذلك اهتم السلف رحمهم الله بقراءة القرآن في هذا الشهر اهتماماً خاصاً ، فكانوا يخصصون جزءاً كبيراً من أوقاتهم لقراءة القرآن ، وربما تركوا مدارسة العلم ليتفرغوا للقرآن ، فكان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة ، وبعضهم يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال ، وبعضهم في كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، وكانوا يقرؤون القرآن في الصلاة وفي غيرها ، فكان للإمام الشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة ، وكان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان ، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً وفي رمضان في كل ثلاث ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة ، وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان يترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على قراءة القرآن من المصحف ، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن .
ومما ينبغي أن يعلم أن الله عز وجل إنما أنزل هذا القرآن للتدبر والعمل لا لمجرد تلاوته والقلب غافل لاه ، قال سبحانه:{ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } (ص 29) ، وقال:{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } (محمد 24) ، ولذلك وصف الله في كتابه أمماً سابقة بأنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، وهذه الأمية هي أمية عقل وفهم وأمية تدبر وعمل ، لا أمية قراءة وكتابة ، فقال سبحانه:{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون } (البقرة 78) ، والأماني هي التلاوة كما قال المفسرون ، أي أنهم يرددون كتابهم من غير فقه ولا عمل ، وأوضح ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم حين حدث أصحابه يوماً فقال : ( هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء ، فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ؟! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ، فقال : ثكلتك أمك يا زياد ، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم ) رواه الترمذي
إذاً فختم القرآن ليس مقصوداً لذاته ، فليس القصد هذ القرآن هذَّ الشعر ، بدون تدبر ولا خشوع ولا ترقيق للقلب ووقوف عند المعاني ، فيكون هم الواحد منا الوصول إلى آخر السورة أو آخر الجزء أو آخر المصحف ، ومن الخطأ أن يحمل أحدنا الحماس عندما يسمع الآثار عن السلف التي تبين اجتهادهم في تلاوة القرآن وختمه ، فيقرأ القرآن من غير تمعن ولا تدبر ، ولا مراعاة لأحكام التجويد أو مخارج الحروف الصحيحة ، حرصاً منه على زيادة عدد الختمات ، وكون العبد يقرأ بعضاً من القرآن جزءاً أو حزباً أو سورة بتدبر وتفكر ، خير له من أن يختم القرآن كله من دون أن يعي منه شيئاً ، وقد جاء رجل لابن مسعود فقال له : إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة ، فقال ابن مسعود : " أهذّاً كهذِّ الشعر ؟! إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ، وكان يقول : إذا سمعت الله يقول : يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك ، فإنه خير تُؤْمَر به أو شر تُصْرَف عنه " ، وقال الحسن :" أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً " .
فاحرص أخي الصائم على تلاوة القرآن في هذا الشهر بتدبر وحضور قلب ، واجعل لك ورداً يومياً لا تفرط فيه ، ولو رتبت لنفسك قراءة جزءين أو ثلاثة بعد كل صلاة لحصَّلت خيراً عظيماً ، واجعل لبيتك وأهلك وأولادك نصيبا من ذلك .
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا وغمومنا ، وسائقنا ودلينا إليك وإلى جناتك جنات النعيم .
شهر الجود والإحسان
شهر رمضان موسم للمتصدقين ، وفرصة للباذلين ، ولذلك ينبغي على العبد أن يضاعف في هذا الشهر إنفاقه في وجوه الخير.
وقدوته في ذلك أكرم الخلق وأجودهم صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه كل ليلة فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة كما في الصحيحين .
وما أحوجنا إلى أن نتلمس هديه وأخلاقه في كل وقت وفي هذا الشهر على وجه الخصوص ، ومن أعظم معالم سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم الجود والكرم والسخاء ، فقد كان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال والنفس لله تعالى ، يقول أنس رضي الله عنه : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه ، جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة . رواه مسلم ، وكان الرجل يسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها ، قال صفوان بن أمية : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ ، أعطاه يوم حنين مائة النعم ثم مائة ثم مائة ونعماً ، فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي .
ولما رجع عليه الصلاة من غزوة حنين تزاحم عليه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا ) أخرجاه في الصحيحين .
حتى إنه ربما سأله رجل ثوبه الذي عليه ، فيدخل بيته ويخرج وقد خلع الثوب ، فيعطيه السائل , وربما اشترى الشيء ودفع ثمنه ثم رده على بائعه ، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأن يعطي أكثر من فرح الآخذ بما يأخذ حتى إنه ليصدق عليه وحده قول القائل :
تَعَوّدَ بسط الكف حتى لو انه ثناها القبض لم تجبه أنامله
تراه إذا مـا جئتـه متهـللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بهـا فليتق الله سـائله
هكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وهو غيض من فيض من فنون جوده عليه الصلاة والسلام التي لا تنحصر .
والصدقة في هذا الشهر شأنها أعظم وآكد ولها مزية على غيرها ، وذلك لشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه ، ولأن فيها إعانة للصائمين المحتاجين على طاعاتهم ، ولذلك استحق المعين لهم مثل أجرهم فمن فطر صائماً كان له مثل أجره ، ولأن الله عز وجل يجود على عباده في هذا الشهر بالرحمة والمغفرة ، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل ، والجزاء من جنس العمل ، والصوم لابد أن يقع فيه خلل أو نقص ، والصدقة تجبر النقص و الخلل ، ولهذا أوجب الله في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث ، ولأن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة فالجمع بينهما من موجبات الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام ) رواه أحمد .
قال بعض السلف : الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق ، والصيام يوصله إلى باب الملك ، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك .
ولذلك حرص السلف رحمهم الله على زيادة البذل والإنفاق وخصوصاً تفطير الصائمين ، وكان كثير منهم يواسون بإفطارهم وربما آثروا به على أنفسهم ، فكان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين ، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة ، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً ، وكان يتصدق بالسكر ويقول : " سمعت الله يقول:{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } (آل عمران 92) ، والله يعلم أني أحب السكر " ، وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه الإمام رغيفين كان يعدهما لفطره ، ثم طوى وأصبح صائماً .
فيا أخي الصائم اغتنم هذه الفرصة ، وأنفق ينفق عليك ، وتذكر إخوة لك في العقيدة في مشارق الأرض ومغاربها يئنون تحت وطأة الجوع والفقر والحاجة ، واعلم أن من تمام شكر النعمة الإنفاق منها ، وأن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد ، ويقرّها فيهم ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم ، فقد أعطاك الله الكثير وطلب منك القليل ، { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون } ( البقرة 245) .